الباب الثاني
اللغة والهيرمينوطيقا ونقد الابستمولوجيا
الفصل الأول
ما بعد الفلسفة
أولا فلسفة من دون الفلسفة
ليس هناك ما يدعونا للاستغراب ونحن نقرأ ضمن أفكار رورتي ما يشير إلى فكرة تكون فيها الفلسفة من دون الفلسفة في الشطل أو المضمون . كما لا ينبغي أن نذهل من نزع صفة الفلسفة عن الفلسفة أو بتعبير سلبي هذه المرة , التفلسف بأسلوب لا فلسفي بالنسبة للبراغماتيين فإن مجهودهم إنصب في " محاولة تهدف إلى إيجاد الوسائل لتقديم البراهين اللافلسفية في لغة ليست فلسفية , فإن لغة فلسفية مفرطة تحتوي على إفتراضات أفلاطونية غير منسجمة مع الأهداف التي يريد البراغماتي الوصول إليها "
1- نهاية الفلسفة
لقد زعم بعض الدارسين لأعمال رورتيوالذين إتقدوا أن الفيلسوف جاء بمواقف معلنه عن موت الفلسفة , وإذا كان المقصود بالنهاية الموت فإن هذا ما ينفيه رورتي بعبارات صريحة ضمن رده على فانسن ديكومب حيث يقول " لا يمكن للفلسفة أن تعرف نهاية , لأن الحياة والثقافة معقدتين إلى درجة أن عددا من الأمور الجديدة التي نريد قولها لا يمكن فيها بدقة إلا بتأقلمنا مع الأشياء القديمة التي نرغب في الإحتفاظ بإستخدامها"
إن الفلسفة لا يمكن أن توجد إلا وسط مناخ حر ومثلما أن ظهورها في اليونان لأول مرة كان يتوفر عامل الحرية فكذلك يرتبط مصيرها بوجود الحرية . هذه الأخيرة التي تعتبر في أعين رورتي الغاية الوحيدة في المجتمع الليبرالي . ويضيف رورتي موضحا موقفة النافي لنهاية الفلسفة والمؤكد على حاجة الأنسان إلى الفلسفة " سنكون بحاجة على الدوام إلى إعادة وصف في الفلسفة بمثل ما يكون ذلك في العلوم والفنون , وحينما نعمل على (دفن) الفلسفة فأننا ندفن دائما نظاما معينا مهجورا للوصف , لن تظل الفلسفة مقبرة أبداً , لأن الأوصاف الجديدة التي تستبدل تلك التي هجرت ستصبح آجلاً أم عاجلاً مهجورة بدورها وسكون هناك مرة أخرى فلاسفة لإنجاز المهمة ".
2- نهاية البراغماتي
يريد الفيلسوف البراغماتي التخلص من الثنائيات التي عمرت في الفلسفة طويلاً وهو حينما يرغب في التخلص منها فإنه لا يوّد إستخدام نفس المفردات ولا نفس الأسلوب الذي عمدت إليه الفلسفات العقلانية , المثالية أو الواقعية , لأنه بستعماله لنفس أدواتها وأساليبها سيقع بحسبه في نفس الأخطاء أو السلبيات التي عابها عليها . تريد البراغماتية بشكل من الأشكال أن تعيد الأعتبار إلى ( هوامش الفكر ) وأن تعمد إلى إحداث تسوية لميادين الثقافة البشرية . فلا تصبح من ثم الفلسفة سوى مجرد عنصر فاعل في هذه الثقافة كبقية العناصر الأخرى ( الفن , العلم , الدين , الشعر ... الخ ) وعندما نصل إلى تجسيد هذه النظرة لا يكون النظر المجرد أو التأمل الذي يكون هدفه الرئيسي البرهنة والحقيقة الموضوعية عنواناً للفلسفة وإنما تكون الأفكار الفلسفية عوناً مساعداً على توجيه مخططات العمل وتحقق الفلسفة إحدى غاياتها في المحادثة والحوار وفي التصدي للمعضلات التي تجابه الكائن البشري .
3- ملامح الفلسفة الرورتية
أ. اللا- ماهوية
صفة ميزت جملة من المذاهب الفلسفية المعاصرة أنها كذلك إحدى الخاصيات ما بعد حداثية ذلك أن رفض الماهيات يندرج في استراتيجيات تيارات ما بعد الحداثة التي إستبدلت الماهوية بالعلائقية وبذلك تميزت عن الحداثة في إطار جدلية الماهية والعلاقة . " فمن حيث الرؤية تبدو الحداثة كالقدامة , جواهرانية ما ورائية , بمعنى أن تقول بوجود ماهيات محضة وحقائق ثابتة , بقدر ما تعطي الأولية للموضوعات والمحتويات والدلالات على الأشكال والبنى والمنطوقات . في حين أن ما بعد الحداثة تبدو ذات طابع بنيوي علائقي , إذ هي تعتبر أن ماهية الشيء تتوقف على علاقته بسواه , بمعنى أنه يتقوم بما يختلف عنه , ولا ينفك عن إستدعاء ضده " . يشـــــــرح رورتي ما يقصده باللا- ماهوية ( إنني أعني بها ذلك المسعى الذي يهدف إلى إلغاء التمييز بين الباطن والظاهر ) . يجعل رورتي اللا- ماهوية أهم خاصية تميز البراغماتية ذلك أن أول ما يتصف به المذهب البراغماتي يتمثل في نزعته اللا- ماهوية التي تنطبق على مفاهيم مثل الحقيقة , المعرفة , اللغة , الأخلاق وكذا جميع المواضيع التي تكون محل تنظير فلسفي من هذا القبيل .
ب. اللا- تمثيلية
يكون من المناسب أن يتبع اللاماهوي هو اللاتمثيلي ومن البديعي " إنك إذا كنت لا ماهوياً وتنخرط في نزعه إسمية سيكولوجية ستكون بالظرورة لا تمثيلي وستقول مع ديفيدسون : تكون الإعتقادات حقيقية أو خاطئة لكنها لا تمثل شيئاً " . يعطي رورتي للنزعة اللا- تمثيلية معنى يشير فيه إلى أن ما يقصده باللا- تمثيلي هو ذلك ( التأويل الذي عوض أن ينظر إلى المعرفة على أنها البحث عن رؤية دقيقة للواقع , يرى فيها بالأحرى إكتساب عادات للفعل تسمح بمواجهة الواقع ) .
ج. اللا- تأسيسية
على خلفية نظرية المعرفة الباحثة في الأسس المعرفية التي تريد أن تقيم بناءات مذهبية تدعي بصلابتها وصحتها ومن ثم تكون دعامات لبناءات أخرى . اللا- تأسيسية ليست أيضاً مجرد خاصية للفلسفة المعاصرة ولكنها في نظر البعض خصيصة تميز ما بعد الحداثة . تشير النزعة اللا- تأسيسية إلى تلك " النظريات التي ترفض الأساس المطلق واللا- تاريخي للمعرفة المتصلة بالذات الأنسانية , اللا- تأسيسية لا تحيل إلى مصدر خارج التاريخ والمجتمع لتبرّر مزاعمها المعرفية .
ثانيا : مستقبل الفلسفة
أن الحديث عن المستقبل يتضمن في طياته النظر إلى ممكن الحدوث ويكون محل تنبؤ وتوقع نظراً لما يجمله من جديد , وهو نفس هذا المعنى الجديد الذي كان الحداثة إحدى مرادفاته الشيء الذي جعل الآراء تنقسم بشأنها إلى فريقين متفائل وآخر متشائم .
1- البراغماتية فلسفة التقدم
لم تكن فكرة التقدم التي راودت الأمريكيين مجرد نزوة لامست مشاعرهم أو فكرة نظرية رومانسية صاحبت كتابات المفكرين والشعراء , بل لقد وجدت سبيلها إلى التجسيد بفضل الاصلاح والتغيير . تبعاً لذلك " أصبح حوار الأمريكيين عن فكرة التقدم أكثر إتساقاً وأكثر إنتقاداً وأكسبت نظرية التطور مفهوم النقدم ميكانيزما تاريخيا جديداً , كما أثارت مشكلات وقضايا جادة جديدة عن المعنى المقصود لكلمتي الفرد والمجتمع " . يقـــــول رورتي ( إذا كان هناك شيء مميز للبراغماتية فهو لا محاله يكمن في إستبداله لمعاني الواقع , العقل , الطبيعة . بمفهوم مستقبل أفضل للإنسانية , يمكن أن نقول عن البراغماتية ما ذكره نوفاليس عن النزعة الرومانسية بأنها تعظيم للمستقبل " .
2- من فلسفة المستقبل إلى مستقبل الفلسفة
يرى رورتي يمكن أن يجد فيها أحدنا على الأقل ستة إمكانيات لمستقبل الفلسفة بعد أن تحل المشاكل التقليدية وهذه الإمكانيات هي : -
أ. من شأن محو الدعوى التي ترى بأن ما يجمع مختلف فروع الفلسفة اللغوية هي النزعة الإسمية المنهجية سيفتح آفاقاً جديدة .
ب. كل من النزعة الإسمية المنهجية ومطلب المعيار الواضح في الاتفاق ينبغي أن يزول , عندئذ تتوقف الفلسفة عن كونها فرعاً برهانياً وتقترب أكثر من الشعر .
ج. فرضية أخرى تدعو إلى الأحتفاظ بالنزعة الإسمية المنهجية ولكنها تدعو في المقابل إلى التخلي عن مطلب المعيار الواضح في الأتفاق حول حقيقة الدعاوي الفلسفية .
د. من المحتمل أننا نرغب في الأنتهاء إلى الأجابة عن السؤال "هل الفلسفة في طريقها إلى النهاية" . ربما تبدت هذه الفرضية في صورة نظرة إيدولوجية لما ستكون عليه الفلسفة وهذه الرغبة في الايدولوجيا يمكن الآن إرضاؤها بواسطة الفنون , العلوم , أو الأثنين معاً .
هـ. يمكن أن تزودنا اللسانيات الإمبريقية بالفعل بصياغات غير عادية للشروط الظرورية والكافية لحقيقة العبادات , والاعتبارات غير العادية لمعاني الكلمات .
و. بإمكان الفلسفة اللغوية أن تتجاوز وظيفتها النقدية لتتجه ناحية نشاط يجعلها تكتشف الشروط الضرورية للغة نفسها على غرار ما فعل كان في حديثه عن الشروط الضرورية لإمكان التجربة .
ثالثاً : الفلسفة المنشئة
ينبغي أن نلاحظ منذ البداية عن الفلسفة المنشئة لا يمكن أن يتم إلا بمعية الفلسفة النسقية . الفلسفتان تقترنان من حيث كونهما حسب تصور رورتي أنهما وجدتا في مرحلتين متتابعتين أو حتى إن وجدت إحداهما في مرحلة ما على الآخرى فحضورها لم يكن له كبير الأثر وذلك ما يراه فيلسوف ا لبراغماتية الجديدة عندما يعتبر أن الفلاسفة الذين برزوا بشكل واضح في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي كانو نسقين قي مقابل الفلاسفة المنشئين الذين كانوا هامشين في حضورهم . يوسّع رورتي من دائرة تمييزه ليجعل من النسقية تلك التي ترتكز على نظرية المعرفة بينما يصح أن يقال بأن المنشئة هي التي تتخذ نقطة إنظلاقها من الشكوك التي توحي بها تثيرها المزاعم النوزيولوجية أي خلافاً للفلسفة النسقية التي تركن إلى نزعة وثوقية في القدرة على المعرفة والحقيقة . يرى رورتي أن الفلاسفة النسقيين هم أصحاب نظرة بنائية , بينما الفلاسفة المنشئون يتبعون مسعى أكثر إرتكاساً يمر عبر النقد اللاذع , المحاكاة الساخرة وجوامع الكلم وهم يدركون أن أعمالهم ستتلاشى مع المرحلة التي يبدون فيها ردود أفعالهم . ومن هذه الزاوية فهم هامشيون بالقصد وكأنهم يختارون هذا الشكل .
1- التنشئة
يعتبر مفهوم التنشئة ( Bildung ) أو التكوين أو الإنشاء التثقيف الذاتي واحداً من المفاهيم المركزية الموجهة للانسانية وحسب غادمير فلكي نعطي مثل هذه المفاهيم معناها الحقيقي ينبغي أن يكون ذلك على أساس تاريخي وحتى الانجذاب صوب اللغة يجب أن يكون في إحدى زواياه تاريخياً لأن فهمنا لأنفسنا ينبني من خلال تاريخ الكلمات والمفاهيم .
2- المحادثة
لمفهوم المحادثة عند رورتي أهمية قصوى تعادل نفس الأهمية التي تكون لمفهوم التنشئة أو تفوقه لا سيما إذا أدركنا أنهما يعنيان تقريباً نفس الشيء أو أنهما في نهاية المطاف يشكلان وحدة أو صورة دلالية واحدة ضمن نسيج الفلسفة الرورتية . يقول رورتي " إن النقطة الوحيدة التي ألح عليها هي أن الرهان الأخلاقي للفلاسفة ينبغي أن يكون في متابعة الغربية , وليس في محاولة تهيئة مكان بأي ثمن للمشكلات التقليدية للفلسفة الحديثة ضمن هذه المحادثة " .
المحادثة مشروطة بشرطين إثنين :-
أ. البنية اللغوية .
ب. فكرة الغيرية .
وهذا ما يشير إليه ليوطار " أن ما نعيشه في هذه الآونة سواء تحت صورة تأسيسية لدى آبل ( Apel ) أو في صورة أكثر تواصلية عند هابرماس , أو في صورة لا تأسيسية ومحض تخاطبية ( براغماتية ) لدى رورتي , تعني في النهاية قبول من دون فحص لفكرة الغيرية بوصفها مقوماً للرهان الأهم لفكر اليوم" .
الفصل الثاني
تقويض الابستمولوجيا
أولاً : تحولات البحث الفلسفي
ليس المبحث الفلسفي - أياً كان هذا المبحث - إطاراً ثابتاً , ستاتيكياً بل هو مندرج ضمن نشاط متحرك , ديناميكي يخضع لقدرات الأنسان والفرد وملكاته , ويخضع كذلك لظروف الأنسان الأجتماعي وتطوره .
1- براديغم المعرفة
في كل ثقافة من الثقافات يعمد أصحابها إلى إصطفاء ميدان بعينه أو جملة من ممارساتهم ومن ثم ينظرون إليها على أنها نموذج للنشاط الانساني ويسعون إلى تعميمه على باقي قطاعات الثقافة , وحسب رورتي دائماً فهذا ما حصل بالضبط في التراث الفلسفي الغربي , أين أخذت المعرفة على أنها ما يمثل هذا النموذج الذي أنجبته الفلسفة الحديثة عندما رأت أن برادغيم المعرفة يتمثل فيما نمتلكه من اعتقادات حقيقة ومبررة أو من اعتقادات تحمل في ذاتها حقيقتها وليست بحاجة إلى تبرير . ظهور الابستمولوجيا لم يكن ليعرف هذا الإنتشار لولا التقدم الحاصل في العلوم والذي يبدو لنا أنه أمر بديهي أن يرافق هذا التقدم مبحث فلسفي هام يكون من مهامه تسليط ضوء التحليل والنقد على المعرفة والعلم بغرض الكشف عن معوقات التقدم العلمي وعقباته . وما تاريخ العلم الحديث إلا محاولة لاستبعاد تدريجي للصعوبات والعقبات التي أعاقت تطور العلم . غير أن رورتي لا يبدي رضاه عن هذه المهام التي قامت بها الفلسفة الحديثة ( الابستمولوجيا ) وهي تتناقض تماماً مع الأطروحة التي يدافع عنها في قراءته لتاريخ الفلسفة الغربية . أن ما يمكن فهمه من أطروحة رورتي الناقدة للإبستمولوجيا الحديثة عند قوله بأنها أخطأت الطريق فذلك يحيلنا مباشرة إلى الوهم الذي رسخته الفلسفة الحديثة بتأكيدها على ماهية الأشياء والنفاذ إلى الطبائع التي إعتقدت بأنها وجدت مفتاح حلها عن طريق المعرفة . إعتقد الفيلسوف التقليدي الذي ينتقده رورتي أنه ينتمي إلى مجال - أي من إشتغاله بالفلسفة - يفوق في منزلته كل المجالات الأخرى المكونة للثقافة الانسانية ومن ثم إعتقد أيضاً بأن المهمة التي يجب عليه أن ينهض بها تمنحه المشروعية اللازمة لوضع المعايير والشروط الكفيلة بتحديد المصداقية وتوزيع الصلاحية على باقي فروع الثقافة لاعتباره الفلسفة تاج المعرفة وهي من خلال بحثها في طبيعة العقل وطبيعة الفكر بمعنى ما عن هذه الأسس التي تعود إليها المعرفة . إنطلاقاً من هذا ظنت الفلسفة أنها الوحيدة القادرة أو على الأقل أنها أقدر من غيرها على أداء هذا الدور بإمتياز بحكم ملامستها لماهيات الأشياء والغوص في عللها البعيدة . وبحسب رورتي فقد أصبحت الفلسفة بعد إدعائها بقدرتها على البحث في طبيعة العقل وطبيعة الأفكار مرتبطة بدور شبيه إلى حد ما بدور الدين في الأزمنة السابقة للعصر الحديث ومن هنا يتحدث رورتي عن ضرورة علمنة الثقافة فتنزع تلك القداسة والتتويج والتفوق الذي يحلو للدين أو الفلسفة أو حتى العلم أن يحتكر فيه الحقيقة ويمارس نوعاً من الأبوية على الميادين الأخرى . يلخص لنا رورتي (( لقد وضعت الفلسفة القديمة والوسيطية الأشياء مركزاً لإبستميتها أما الفلسفة كما تطورت في القرون من 17 إلى 19 فقد وضعت الأفكار في مركز الصدارة , واليوم فبواسطة الكلمات حيث يتم توضيح الساحة الفلسفية )) .
مواضيع الفلسفة كما يلخصها رورتي ترتب وفق تحقيب زمني مر به الفكر الفلسفي من القديم إلى المعاصر مروراً بالوسيط والحديث وهو ما يتجسد فيما يأتي :-
أ. الفلسفة القديمو والوسيطية : الأشياء .
ب. الفلسفة الحديثة : الأفكار .
ج. الفلسفة المعاصرة : الكلمات .
2- نقد الابستمولوجيا
ينصب عمل رورتي بدرجة كبيرة على نقد الأبستمولوجيا الغربية فلقد أعلن الفيلسوف في خضم مشروعه الفكري عن نزعته التفكيكية الساعية إلى إماطة اللثام عن مزاعم وإدعاءات الفلاسفة الذين جعلوا نصب أعينهم البحث في الإبستمولوجيا عن مفاهيم ميتافيزيقية كالمطلق , الطبيعة الأنسانية المشتركة , الماهية , الحقيقة . هذه المفاهيم في إعتقاد رورتي لم يضف الإهتمام بها أي شئ إلى المجهود الفلسفي المبذول بل أنها عرقلت مسار البحث الفلسفي وقادته إلى وجهات لم تثمر . غالباً " ما يستخدم البراغماتيون مصطلح الابستمولوجيا بطريقة مذمومة وكأنهم يشيرون إلى شيء ما عليهم تجنبه في الواقع ".
ثانيا : من الإبستمولوجيا إلى اللغة
يبدو أن التحول من الإبستمولوجيا صوب اللغة في الفلسفة المعاصرة فرضه دافع الهتمام بالحقيقة والذي كان الدافع نفسه من التحول من الأنطولوجيا بإتجاه الابستمولوجيا .
1- الرجوع إلى اللغة
إذا كان كل وجود متعلق بالمعرفة - على الأقل من وجهة نظر مثالية - فإن كل معرفة يفصح عنها باللغة . هكذا تصور الفلاسفة الرواد في مجال فلسفة اللغة مثل فريغه , راسل وكارناب بأن الهدف من تطهير اللغة العادية بواسطة التحليل المستند إلى المنطق إنما الغرض منه هو التخلص من نواحي الغموض والإلتباسات الماثلة فيها بحيث تغدو سليمة فتصور لنا العالم من منظور معرفي تصويراً دقيقاً .
2- من اللغة إلى التأويل
أخذ الأهتمام باللغة أبعاداً كبيرة في الفلسفة المعاصرة على حساب مباحث فلسفية كانت إلى نهاية القرن 19 تجلب إنتباه الفلاسفة وتستهويهم أكثر ومنها على الخصوص المعرفة والأخلاق . وقد بدأ الأهتمام بدراسة اللغة متشعباً ومتنوعاً شكلاً ومضموناً . فقد ظهر عند علماء اللغة واللسانيات ميل نحو إنتاج نظرية للغة كما هو الحال عند فرديناند دوسوسير من خلال دراسته اللغة من زاوية بنيوية . فالمعروف أن اللغة تعد خاصية الكائن البشري الأساسية يحيث جرى تعريفه بها على أنه كائن ناطق بما يفيد أن كينونة الانسان تكمن في اللغة وفي داخلها فلا وجود له خارج اللغة .
ثالثا : المنعرج اللغوي والهيرمينوطيقا
هذا المنعرج اللغوي يعرفّه رورتي بأنه ذلك ( المنعطف الذي إتخذه الفلاسفة في اللحظة التي هجروا فيها الخبرة بوصفها موضوعاً فلسفياً وتبنوا موضوع اللغة ةبدأوا في السير خلف خطى فريغه بدلاً من لوك ) .
1- الأهتمام باللغة
علاوة على ما حظيت به اللغة من إهتمام ليس فقط لكونها أداة وصف وإعادة وصف لما نريد أن نحكم عليه بأنه حقيقي في كل خطاب من الخطابات التي ينتجها الأنسان علمية كانت أو فلسفية أو فنية وإنما لكونها تجسد كينونة الكائن البشري ووعي الأنسان هو ما جعل هيدغر يعد اللغة هي مسكن الكائن . يقول هيدغر (يتصرف الأنسان وكأنه السيد والخالق للغة , في حين أن هذا الأخير عكس ذلك هو من يكون ويظل سيده لأنه بأتم معنى الكلمات فإن اللغة هي التي تتكلم . الأنسان يتكلم فقط إلا بقدر ما يجيب اللغة بإنصاته إلى ما تقوله له ) .فالإنسان هو خالق اللغة المعبرة عن وجوده أي هو الخالق لوسيلته في تحقيق وجوده . ومن هنا فكل خطاب إنما يحقق جزء من هذا الوجود وهذا ينطبق حتى على لغة الآلة وهي من خلق الأنسان وتتكلم لغة غير لغته الأنسانية لكنها من منظور التقنية تكمل جزءاً هاماً من الوجود الأنساني , وتساهم بشكل واسع في مده بالقوة الكافية لتقهر الطبيعة وتسخيرها لأغراضه الأنسانية . ينتقد رورتي محاولات الفلاسفة الهادفة إلة إعطاء اللغة وضعاً خالصاً وجعلها ميدان الفلسفة بإمتياز بعد أن تحولت عن المعرفة .
2- التأويل والإستعمال
لقد تجلت الدعوة إلى الهيرمينوطيقا مع رورتي كملجأ للتخلص من التوجه النوزيولوجي الذي إنتقده حيث وجد عند غادامير أساس هذا المشروع الذي تقاطعت فيه نزعات فينومونولوجية , وجودية , براغماتية وتفكيكية وإلتقت في بوتقة اللغة والتأويل . ولم يقصد غادامير من الظاهرة التأويلية منهجاً مغايراً من مناهج البحث المعروفة أو منهجاً جديداً للوصول إلى الحقيقة بقدر ما كان مطمحه منها الفهم والتفتح على تجارب وخبرات جديدة في التواصل مع العالم . إن إرتباط الفكر باللغة وإرتباط هذا المباشر بالتأويل هو ما حفز غادامير إلى جعل الهيرمينوطيقا فلسفة يقول ( إن شكل الأرتباط الوثيق بين الفكر واللغة لا يمكنه إلا أن يجبر الهيرمينوطيقا أن تصبح فلسفة . وينبغي علينا أن نفكر دوماً داخل اللغة , حتى وإن كنا لا نفكر على الدوام بنفس اللغة . ولا يمكن للتأويلية أن تفلت من الزعم بالكونية لأن اللغة لا تنفصل عن العقل ) .يطرح غادامير سؤلاً ما الهيرمينوطيقا ؟! يجيب إنطلاقاً من خبرتين للإغتراب :-
أ. الوعي الجمالي : يرى أن تحقق لنا إمكانية عدم قدرتنا بما نحن عليه من رفض أو تقليل من التصرف بكيفية نقدية أو إيجابية حيال نوعية عمل فني , لكن هذا ينبغي التأكيد عليه , بكيفية ما وهو أن الحكم الذي نطلقه سيقرر في نهاية المطاف عن بالصرامة التعبيرية وبالشرعية عما نحكم على أنه كذلك .
ب. الوعي التاريخي : هو يمثل عنده فناً كبيراً بطئ التطور سمح لنا بالتعلم بنقد أنفسنا وذلك بإستقبال شهادات الماضي .
يقول رورتي (( الزعم بأن أشكال المعرفة متمايزة أو أنها تتطابق مع أنواع مختلفة من المنطق يعتبر خطأ يرجع إلى تصور خاطئ تعكس المعرفة بحسبه بصدق ماهية موضوعه )) .
يختلف إذن رورتي في تقييمه عن باقي الرؤى الفلسفية التي ناقشت تأويلية غادامير ويحيلنا إلى مقاربة براغماتية يكون فيها التأويل أقرب إلى الإستعمال .
3- الهيرمينوطيقا بين رورتي وغادامير
يحدد رورتي ما يرمي إليه من التأويل ويوافق غادامير في طرحه الناقد للابستمولوجيا والداعي إلى الفهم بنظرة كلية , فيقول (( في التصور الذي أقترحه , لا تشير الهيرمينوطيقا لا إلى فرع معرفي ولا إلى منهج يفترض أن يسمح لنا بالنجاح حيث فشلت نظرية المعرفة , كما أنها ليست إسما لبرنامج بحث )) .
إنطلاقاً من منظور تاريخي يتكرر بإستمرار في التصور البراغماتي لــ رورتي , لا توجد فكرة تتطابق مع شئ خارجي أو معنى حقيقي مبثوث في نص معين بحيث يسمح منهج ما - حتى وإن كان التأويل وهو لا يعده منهجاً - بالكشف عن حقيقته في مقابل ماهو صدفي أو علائقي يبدي رورتي معارضته لفهم كهذا في تصور دور للتأويل مفكك للرموز وقادر على النفاذ إلى الأعماق وحل الشفرات .
إذا كا المقصود بالتأويل هو الفهم فإن السؤال الذي يطرح نفسه ما علاقة الأثنين ببعضهما ؟ هل يكون التأويل بغرض الفهم كعملية تخضع لها النصوص وآلية تسلط على الغامض من المعاني ؟ حتى نتجنب الإغتراب واللامعنى وسوء المعنى . ألا يكون الفهم بدوره مؤدياً إلى التأويل بمعنى التفسير على الأقل ؟ ثم أن حصول الأثنين ألا يؤدي بنا إلى الألتفات إلى الأستخدام من المنظورين المنهجي والمعرفي ؟ ليكون التأويل كعامل إندماج للإنسان في العالم جزء من وعيه .
يقول سيلارس (( التحكم في اللغة هي الشرط الضروري لكل خبرة واعية )) .
أولا : الحقيقة براغماتياً
الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي أثنى على التصور البراغماتي للحقيقة ووصفه بأنه إختراع وذلك في المقدمة التي وضعها لكتاب وليم جيمس "البراغماتية " حيث قال (( يمكننا فيما يبدو لي , تلخيص الأهم في التصور البراغماتي للحقيقة في صيغة مثل هذه :بينما تعتبر حقيقة جديدة بالنسبة إلى المذاهب الأخرى اكتشافاً , فإنها عند البراغماتية إختراعاً )) . لكن هذا الترحيب والثناء الذي صادفه التصور البراغماتي من جهة قوبل من جهة أخرى بإنتقادات واعتراضات على ما قدم من مضمون فكري بدا للبعض مبتذلاً وغير جدير بالمناقشة الفلسفية بل إنه يصب في خانة التصورات الساذجة . وقد مثل هذه الوجهة من النظر الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل الذي يتعجب من تهليل البراغماتيين لموقف برغسون والنظر إليه على أنه تدعيم وسند لطروحاتهم وحيث يقول راسل " ومن عجيب الأمر أن الراغماتيين قد هللّوا لـــــ برغسون وإعتبروه حليفاً لهم , رغم أن فلسفته في ظاهرها هي النقيض الكامل لفلسفتهم , فبينما يقول البراغماتيين إن الفائدة هي محك الصدق العقلي , فإن برغسون يقول على العكس من ذلك إن عقلنا وقد شكلته إحتياجاتنا العملية يتجاهل كل جوانب العالم التي لا تعود عليه ملاحظتها بالفائدة" .
1- صنع الحقيقة :
في إتصال مجرى البحث كانت "البراغماتية نظرية تكوينية لما يقصد بالحقيقة" فهي تكوينية لأن الحقيقة تقوم تدريجياً جراء البحث وليس بشكل مسبق عنه . وهي خاضعه كذلك لمبدأ التقدم والتطور في المنطق , وهذا يتجلى من ( إهتمامات ديوي التي هي بيولوجية أكثر منها إهتمامات رياضية وهو يتصور الفكر كعملية تطورية ) . فإذا كانت الأفكار المعاني , التصورات , المفاهيم , النظريات , والأنظمة أداتية لإعادة تنظيم فعال ونشيط للمحيط المعطى وللانتقال من الفوضى والاضطراب فإن امتحان صلاحيتها وقيمتها مرهون بإنجاز هذا العمل . فإذا نجحت في هذا الدور فهي موثوق بها سليمة , صالحة وحسنة وحقيقية , وإذا فشلت في توضيح الخلط وفي القضاء على الخلل وازداد معها الارتباك والارتياب أثناء نشاطها وفعلها فإنها خاطئة . وهو ما يطلق عليه البراغماتيون ( جيمس, بوتنام) اسم تبرير ضمن حالة مثالية ( لا بمعنى المثالية في أنها ذات طبيعة فكرية أو روحية ولكن من حيث هي أفضل النتائج المحصلة ) أو حسب تعبير بيرس نهاية البحث . إذن البراغماتية تتميز بأصالة ووجاهه نظرتها إلى موضوع الحقيقة بشكل لافت للانتباه وهي من ثم تنفرد عن الرؤى الفلسفية الكلاسيكية الأخرى والتي لا تنظر إلى الحقيقة إلا بوصفها تطابقاً أو تماسكاً . فالبراغماتية تستغل عن باقي المذاهب الفلسفية بوجهة نظر نوعية وإنسانية بالمعنى الذي يكون فيه الحقيقي لا قيمة ولا إعتبار له إلا اذا كان مفيداً ونافعاً على المستويين الخاص والعام على السواء . وبعبارة أخرى فإن البراغماتيين " يعتبرون الحقيقة وفقاً لصياغة جيمس كونها شيئاً ملائماً لما نعتقده " .
2- رورتي والحقيقة :
نجد أن موضوع الحقيقة مرتبطاً أشد الأرتباط بالبراغماتية عند فلاسفتها وعند الدارسن للبراغماتية الذين يرون أن أهم ما يميز البراغماتية من بين فلسفات عديدة هو تصورها الخاص للحقيقة . غير أن مثل هذا الإقرار قد لا نجد له مبرراً عند رورتي الذي يقدم لنا وجهة نظر أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها غامضة . (( فهو [أي الفيلسوف البراغماتي] مناصر ومؤيد للتضامن وطريقته في إضفاء الشرعية المطلوبة على قيمة البحث المنجز بشكل تعاوني ومشترك يرتكز على الأخلاق وليس على الإبستمولوجيا أو الميتافيزيقا )) . فالأخلاق التي يبني عليه نظرته للحقيقة ولغيرها من مسائل الفلسفة تتأسس على التاريخ والمصادفة . ولا تعود إلى إفتراض تصورات ميتافيزيقية خاصة بالحقيقة ذاتها أو بالطبيعة البشرية أو إسناد ذلك إلى قوة أخرى غير إنسانية. بالنظر إلى طرح رورتي الحقيقة تطابق وتوافق حول إتفاق مشترك . في تقدير رورتي ليس هناك من شيء يمكنه أن يجعل من إعتقاد ما حقيقي موضوعياً سوى تطابقه مع إتفاق مشترك . يقول رورتي ( لا يعتقد البراغماتيون بأن هدف البحث هو الحقيقة بل إن الهدف من البحث يكمن في المنفعة وبقدر تعدد الأهداف المبتغاة تتعد الأدوات المختلفة النافعة ) . وليس هدف البحث دوماً الحقيقة ما بقدر ماهو مطلب حاجات الأنسان وتلبيتها . أي المنافع التي يصر الخطاب البراغماتي على إعطائها مقاماً أولياً .
ثانياً : الحقيقة بدون نظرية
يقر رورتي بأن (( الهدف من البحث ليس هو الحقيقة وإنما هناك جملة من الأهداف الخاصة التي يسعى العلم والإثبات إلى تحقيقها ولا يوجد هدف يفوق الأهداف الأخرى بحيث يكون هو الحقيقة )) . كذلك فإن رفض إختزال أهداف البحث في الحقيقة يعني بالنسبة إلى رورتي وإلى البراغماتيين أن الزعم بالحقيقة كهدف واحد في البحث إنما هو زعم فارغ أو خاطئ لكنه يبقي على التساؤل حول الحقيقة مفتوحاً .
1- الحقيقة ليست غاية البحث :
يعتبر رورتي أن البراغماتيين لا يملكون نظرية في الحقيقة بقدر ما أنهم أصحاب وجهة نظر فلسفية بخصوص الحقيقة . نفهم من موقف رورتي أنه يريد التملص على طريقة البراغماتيين الآخرين من الخوض في مسائل هي أقرب إلى الميتافيزيقا هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الإبتعاد عن المضي قدماً في الحديث عن البعد النظري التي تشمئز وتنفر منه أقلام ما بعد الحداثيين .
2- الحقيقة خطاب مغلق :
رورتي وتبعاً لموقفه المتذبذب أحياناً يؤكد في كتابه الثاني "نتائج البراغماتية " على نظرية براغماتية في الحقيقة ويشير إلى هذا في قوله ( أن المحاولات التي يتركب منها هذا الكتاب تهدف إلى إستخلاص نتائج نظرية براغماتية للحقيقة . نظرية كهذه تنص على أن الحقيقة ليست من نوع الأشياء التي ينتظر منها أن تكون نظرية فلسفية هامة ) . يدعونا رورتي في فلسفته ذات البعد الجمالي إلى توسيع القدرة الخيالية من خلال الإلحاح على أن (الخيال هو في الوقت ذاته مصدراً لجداول علمية جديدة للكون الفيزيائي ولتصورات جديدة للمجتمعات الممكنة) . يريد رورتي وفق طرح براغماتي أن يكون مثمراً في الاتجاهين في آن واحد علمي معرفي وإجتماعي أخلاقي مصدره الاهتمام الذي يوليه لمشكل الحقيقة .
ثالثا: الحقيقة والاثبات
كيف نعرف حقيقة أنه كذلك حقيقي ؟ وبلغة جيمس المتسمة بعبارات الخبرة والقيمة الفورية يكون رد البراغماتي (( الأفكار الحقيقة هي التي يمكننا استيعابها , إثبات صحتها , تأييدها والتحقق منها . والأفكار الخاطئة هي التي لا نستطيع فعل ذلك معها . هذا هو الفرق العملي الذي تحدثه لدينا الأفكار الحقيقة وعلى ذلك , فهذا هو معنى الحقيقة وكل ما يمكن أن تعرّف به الحقيقة )) .
1- الارتياب في التمييز بين الحقيقة والإثبات
لا يخلو موقف البراغماتيين من الارتباك والصعوبة خصوصا عندما نعرف أن المعيار المعتمد ( أي النافع والمفيد ) سيحيلنا من جديد إلى مسألة التبرير فهل الحقيقي هو المبرر والعكس صحيح ؟ وهل هما يعنيان نفس الشئ فعلا واقعا وحقيقة؟ أم هناك فرق بينهما ؟ في الوقت الذي تخلط بينهما البراغماتية مثلما تتهم بذلك . يرد البراغماتيون على هذا الانتقاد بكيفيتين :-
أ. بعض من البراغماتيين صرحوا بأنه من الممكن الاحتفاظ بدلالة مطلقة للفظ "حقيقي" وذلك بإعطائه معنى تبرير في ظل وضعية مثالية وهي من قبيل الوضعية التي سماها بيرس "نهاية البحث".
ب. البعض الآخر من البراغماتيين اقترحوا أن ليس هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص الحقيقة وبأنه يتوجب على الفلاسفة الاكتفاء والتقيّد بالتبرير من مثل ما أسماه ديوي "التأكيد المضمون" .
2- المطلق والنسبي في الحقيقة :
كل إقتراح نختاره للاعتقاد سيتوافق مع واحد من المقولات الأربع وهذه المقولات هي :-
1. مثبتة وحقيقة >> عن طريق البداهة العلمية المتاحة .
2. ليست مثبتة أو حقيقة : يقول رورتي ((مجردة وليست معينة كتلك التي مارسها ديكارت بحيث لا أستطيع فعل أي شئ لحلها فيجب التخلي عنها .. وينبغي على الفلسفة تجاهلها)) .
3. مثبتة وليست حقيقة : التأكيد في هذه القضايا يكون مقبولاً من خلال الإحالة إلى معايير التبرير المعمول بها في ذلك الوقت .
4. ليست مثبتة ولكنها حقيقية : إن ما نعتقده بأنه حقيقي يمكن أن لا يكون له مبرراً في ظروف مغايرة .
رابعا : شرط الحقيقة :
شرط الحقيقة إذا شئنا بالنسبة إلى رورتي يبدو أنه كامن في استعمالنا للغة من خلال وعينا بعارضية لغتنا . ففكرة صنع الحقيقة تتجسد من خلال عباراتنا وجملنا التي وحدها توصف بأنها حقيقية أو خاطئة ونحن الذين ننطق , نحن فقط من يتكلم وليس العالم .
يقول رورتي (( بأن الحقيقة ليست هناك , يعني بكل بساطو القول بأنه من دون الجُمَل فلا وجود للحقيقة , وبأن الجُمَل هي عناصر للغات الإنسان , وبأن ما نسميه اللغات هو إبداعات إنسانية )) .
الفصل الثالث
مطارحات الحقيقة
أولا : الحقيقة براغماتياً
الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي أثنى على التصور البراغماتي للحقيقة ووصفه بأنه إختراع وذلك في المقدمة التي وضعها لكتاب وليم جيمس "البراغماتية " حيث قال (( يمكننا فيما يبدو لي , تلخيص الأهم في التصور البراغماتي للحقيقة في صيغة مثل هذه :بينما تعتبر حقيقة جديدة بالنسبة إلى المذاهب الأخرى اكتشافاً , فإنها عند البراغماتية إختراعاً )) . لكن هذا الترحيب والثناء الذي صادفه التصور البراغماتي من جهة قوبل من جهة أخرى بإنتقادات واعتراضات على ما قدم من مضمون فكري بدا للبعض مبتذلاً وغير جدير بالمناقشة الفلسفية بل إنه يصب في خانة التصورات الساذجة . وقد مثل هذه الوجهة من النظر الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل الذي يتعجب من تهليل البراغماتيين لموقف برغسون والنظر إليه على أنه تدعيم وسند لطروحاتهم وحيث يقول راسل " ومن عجيب الأمر أن الراغماتيين قد هللّوا لـــــ برغسون وإعتبروه حليفاً لهم , رغم أن فلسفته في ظاهرها هي النقيض الكامل لفلسفتهم , فبينما يقول البراغماتيين إن الفائدة هي محك الصدق العقلي , فإن برغسون يقول على العكس من ذلك إن عقلنا وقد شكلته إحتياجاتنا العملية يتجاهل كل جوانب العالم التي لا تعود عليه ملاحظتها بالفائدة" .
1- صنع الحقيقة :
في إتصال مجرى البحث كانت "البراغماتية نظرية تكوينية لما يقصد بالحقيقة" فهي تكوينية لأن الحقيقة تقوم تدريجياً جراء البحث وليس بشكل مسبق عنه . وهي خاضعه كذلك لمبدأ التقدم والتطور في المنطق , وهذا يتجلى من ( إهتمامات ديوي التي هي بيولوجية أكثر منها إهتمامات رياضية وهو يتصور الفكر كعملية تطورية ) . فإذا كانت الأفكار المعاني , التصورات , المفاهيم , النظريات , والأنظمة أداتية لإعادة تنظيم فعال ونشيط للمحيط المعطى وللانتقال من الفوضى والاضطراب فإن امتحان صلاحيتها وقيمتها مرهون بإنجاز هذا العمل . فإذا نجحت في هذا الدور فهي موثوق بها سليمة , صالحة وحسنة وحقيقية , وإذا فشلت في توضيح الخلط وفي القضاء على الخلل وازداد معها الارتباك والارتياب أثناء نشاطها وفعلها فإنها خاطئة . وهو ما يطلق عليه البراغماتيون ( جيمس, بوتنام) اسم تبرير ضمن حالة مثالية ( لا بمعنى المثالية في أنها ذات طبيعة فكرية أو روحية ولكن من حيث هي أفضل النتائج المحصلة ) أو حسب تعبير بيرس نهاية البحث . إذن البراغماتية تتميز بأصالة ووجاهه نظرتها إلى موضوع الحقيقة بشكل لافت للانتباه وهي من ثم تنفرد عن الرؤى الفلسفية الكلاسيكية الأخرى والتي لا تنظر إلى الحقيقة إلا بوصفها تطابقاً أو تماسكاً . فالبراغماتية تستغل عن باقي المذاهب الفلسفية بوجهة نظر نوعية وإنسانية بالمعنى الذي يكون فيه الحقيقي لا قيمة ولا إعتبار له إلا اذا كان مفيداً ونافعاً على المستويين الخاص والعام على السواء . وبعبارة أخرى فإن البراغماتيين " يعتبرون الحقيقة وفقاً لصياغة جيمس كونها شيئاً ملائماً لما نعتقده " .
2- رورتي والحقيقة :
نجد أن موضوع الحقيقة مرتبطاً أشد الأرتباط بالبراغماتية عند فلاسفتها وعند الدارسن للبراغماتية الذين يرون أن أهم ما يميز البراغماتية من بين فلسفات عديدة هو تصورها الخاص للحقيقة . غير أن مثل هذا الإقرار قد لا نجد له مبرراً عند رورتي الذي يقدم لنا وجهة نظر أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها غامضة . (( فهو [أي الفيلسوف البراغماتي] مناصر ومؤيد للتضامن وطريقته في إضفاء الشرعية المطلوبة على قيمة البحث المنجز بشكل تعاوني ومشترك يرتكز على الأخلاق وليس على الإبستمولوجيا أو الميتافيزيقا )) . فالأخلاق التي يبني عليه نظرته للحقيقة ولغيرها من مسائل الفلسفة تتأسس على التاريخ والمصادفة . ولا تعود إلى إفتراض تصورات ميتافيزيقية خاصة بالحقيقة ذاتها أو بالطبيعة البشرية أو إسناد ذلك إلى قوة أخرى غير إنسانية. بالنظر إلى طرح رورتي الحقيقة تطابق وتوافق حول إتفاق مشترك . في تقدير رورتي ليس هناك من شيء يمكنه أن يجعل من إعتقاد ما حقيقي موضوعياً سوى تطابقه مع إتفاق مشترك . يقول رورتي ( لا يعتقد البراغماتيون بأن هدف البحث هو الحقيقة بل إن الهدف من البحث يكمن في المنفعة وبقدر تعدد الأهداف المبتغاة تتعد الأدوات المختلفة النافعة ) . وليس هدف البحث دوماً الحقيقة ما بقدر ماهو مطلب حاجات الأنسان وتلبيتها . أي المنافع التي يصر الخطاب البراغماتي على إعطائها مقاماً أولياً .
ثانياً : الحقيقة بدون نظرية
يقر رورتي بأن (( الهدف من البحث ليس هو الحقيقة وإنما هناك جملة من الأهداف الخاصة التي يسعى العلم والإثبات إلى تحقيقها ولا يوجد هدف يفوق الأهداف الأخرى بحيث يكون هو الحقيقة )) . كذلك فإن رفض إختزال أهداف البحث في الحقيقة يعني بالنسبة إلى رورتي وإلى البراغماتيين أن الزعم بالحقيقة كهدف واحد في البحث إنما هو زعم فارغ أو خاطئ لكنه يبقي على التساؤل حول الحقيقة مفتوحاً .
1- الحقيقة ليست غاية البحث :
يعتبر رورتي أن البراغماتيين لا يملكون نظرية في الحقيقة بقدر ما أنهم أصحاب وجهة نظر فلسفية بخصوص الحقيقة . نفهم من موقف رورتي أنه يريد التملص على طريقة البراغماتيين الآخرين من الخوض في مسائل هي أقرب إلى الميتافيزيقا هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الإبتعاد عن المضي قدماً في الحديث عن البعد النظري التي تشمئز وتنفر منه أقلام ما بعد الحداثيين .
2- الحقيقة خطاب مغلق :
رورتي وتبعاً لموقفه المتذبذب أحياناً يؤكد في كتابه الثاني "نتائج البراغماتية " على نظرية براغماتية في الحقيقة ويشير إلى هذا في قوله ( أن المحاولات التي يتركب منها هذا الكتاب تهدف إلى إستخلاص نتائج نظرية براغماتية للحقيقة . نظرية كهذه تنص على أن الحقيقة ليست من نوع الأشياء التي ينتظر منها أن تكون نظرية فلسفية هامة ) . يدعونا رورتي في فلسفته ذات البعد الجمالي إلى توسيع القدرة الخيالية من خلال الإلحاح على أن (الخيال هو في الوقت ذاته مصدراً لجداول علمية جديدة للكون الفيزيائي ولتصورات جديدة للمجتمعات الممكنة) . يريد رورتي وفق طرح براغماتي أن يكون مثمراً في الاتجاهين في آن واحد علمي معرفي وإجتماعي أخلاقي مصدره الاهتمام الذي يوليه لمشكل الحقيقة .
ثالثا: الحقيقة والاثبات
كيف نعرف حقيقة أنه كذلك حقيقي ؟ وبلغة جيمس المتسمة بعبارات الخبرة والقيمة الفورية يكون رد البراغماتي (( الأفكار الحقيقة هي التي يمكننا استيعابها , إثبات صحتها , تأييدها والتحقق منها . والأفكار الخاطئة هي التي لا نستطيع فعل ذلك معها . هذا هو الفرق العملي الذي تحدثه لدينا الأفكار الحقيقة وعلى ذلك , فهذا هو معنى الحقيقة وكل ما يمكن أن تعرّف به الحقيقة )) .
1- الارتياب في التمييز بين الحقيقة والإثبات
لا يخلو موقف البراغماتيين من الارتباك والصعوبة خصوصا عندما نعرف أن المعيار المعتمد ( أي النافع والمفيد ) سيحيلنا من جديد إلى مسألة التبرير فهل الحقيقي هو المبرر والعكس صحيح ؟ وهل هما يعنيان نفس الشئ فعلا واقعا وحقيقة؟ أم هناك فرق بينهما ؟ في الوقت الذي تخلط بينهما البراغماتية مثلما تتهم بذلك . يرد البراغماتيون على هذا الانتقاد بكيفيتين :-
أ. بعض من البراغماتيين صرحوا بأنه من الممكن الاحتفاظ بدلالة مطلقة للفظ "حقيقي" وذلك بإعطائه معنى تبرير في ظل وضعية مثالية وهي من قبيل الوضعية التي سماها بيرس "نهاية البحث".
ب. البعض الآخر من البراغماتيين اقترحوا أن ليس هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص الحقيقة وبأنه يتوجب على الفلاسفة الاكتفاء والتقيّد بالتبرير من مثل ما أسماه ديوي "التأكيد المضمون" .
2- المطلق والنسبي في الحقيقة :
كل إقتراح نختاره للاعتقاد سيتوافق مع واحد من المقولات الأربع وهذه المقولات هي :-
1. مثبتة وحقيقة >> عن طريق البداهة العلمية المتاحة .
2. ليست مثبتة أو حقيقة : يقول رورتي ((مجردة وليست معينة كتلك التي مارسها ديكارت بحيث لا أستطيع فعل أي شئ لحلها فيجب التخلي عنها .. وينبغي على الفلسفة تجاهلها)) .
3. مثبتة وليست حقيقة : التأكيد في هذه القضايا يكون مقبولاً من خلال الإحالة إلى معايير التبرير المعمول بها في ذلك الوقت .
4. ليست مثبتة ولكنها حقيقية : إن ما نعتقده بأنه حقيقي يمكن أن لا يكون له مبرراً في ظروف مغايرة .
رابعا : شرط الحقيقة :
شرط الحقيقة إذا شئنا بالنسبة إلى رورتي يبدو أنه كامن في استعمالنا للغة من خلال وعينا بعارضية لغتنا . ففكرة صنع الحقيقة تتجسد من خلال عباراتنا وجملنا التي وحدها توصف بأنها حقيقية أو خاطئة ونحن الذين ننطق , نحن فقط من يتكلم وليس العالم .
يقول رورتي (( بأن الحقيقة ليست هناك , يعني بكل بساطو القول بأنه من دون الجُمَل فلا وجود للحقيقة , وبأن الجُمَل هي عناصر للغات الإنسان , وبأن ما نسميه اللغات هو إبداعات إنسانية )) .